لم يسبق أن لعب الغاز الطبيعي دوراً أكبر في تلبية احتياجات العالم من الطاقة من الوقت الحالي، ففي حين أن استهلاك النفط والفحم على وشك الوصول إلى الذروة، فإن الطلب على الغاز ينمو بسرعة، مما يجعله أطول أنواع الوقود الأحفوري بقاءً، بينما تتبنى الدول مصادر أنظف في محاولة لتجنب أسوأ عواقب تغير المناخ.
يسوق المدافعون عن الغاز الطبيعي منذ فترة طويلة حجة مفادها أنه مصدر يسهّل التحول إلى طاقة أنظف، سواء من خلال تقليص الاعتماد على الفحم الأكثر تلويثاً، أو عبر التعويض عن عدم قدرة طاقة الرياح والطاقة الشمسية على إنتاج الكهرباء بشكل مستمر في جميع الأوقات والمواسم.
وكان يُنظر إلى حكومات العالم على أنها تؤيد هذا الرأي في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ “كوب28” في أواخر العام الماضي، والذي اعترفت فيه بدور “وقود انتقالي” من دون تسميته، حتى مع تقديم التزام تاريخي بالتخلي عن الوقود الأحفوري.
زيادة احتياجات الطاقة
مع النمو السريع لاحتياجات الطاقة في اقتصادات الأسواق الناشئة التي تقود الطلب على الغاز، تنفق شركات الطاقة بسخاء لتعزيز قدرتها على تصديره، ومكمن الخطر هنا هو أنه بدلاً من أن يكون بمثابة جسر إلى الطاقة النظيفة، فإن الغاز سوف يصبح متجذراً إلى الحد قد يتحول فيه إلى فخ وقود أحفوري، إذ يحبس انبعاثات الغازات عند مستوى يؤدي إلى تصاعد خطير في ظاهرة الاحتباس الحراري.
فيما يلي نبذة عن طفرة الغاز الطبيعي، والمناقشات بشأنها، ومخاطرها:
متى يقلص استخدام الغاز الانبعاثات، ومتى لا يؤثر؟
تعطي تجربة الولايات المتحدة على مدى العقدين الماضيين على ما يبدو مصداقية للقول إن الغاز الطبيعي وقود انتقالي، ولأن حرق الغاز لتوليد الكهرباء ينتج نحو نصف كمية ثاني أكسيد الكربون التي ينتجها الفحم، فإن التحول إلى الوقود الأقل تلويثاً في قطاع الطاقة ساعد في خفض ملموس في انبعاثات الغازات الدفيئة.
كما سهل هذا النوع من التحول حقيقة مفادها أن استهلاك الكهرباء كان مستقراً بشكل أساسي في الولايات المتحدة لسنوات، مما أتاح لمزودي الخدمات حرق كميات أقل من الفحم والمزيد من الغاز بعد أن أتاحت ثورة النفط الصخري احتياطيات هائلة من الوقود الرخيص.
طفرة الغاز الطبيعي
يختلف الوضع في البلدان النامية التي تقود طفرة الغاز الطبيعي اليوم، ومع قيام هذه الدول بالتصنيع وزيادة الاعتماد على الكهرباء، فإن احتياجاتها من الطاقة تتزايد بسرعة.
وعلى الصعيد العالمي، تتوقع وكالة الطاقة الدولية أن يرتفع الطلب على الكهرباء بمتوسط 3.4% سنوياً حتى 2026، بقيادة الصين والهند ودول جنوب شرقي آسيا، وفي مثل هذه الأماكن، هناك خطر يتمثل في أن البنية التحتية الجديدة للغاز ستزيد الانبعاثات بدلاً من استبدال توليد الفحم الحالي.
قال مارك هاتشينسون، المدير في المجلس العالمي لطاقة الرياح ومقره في سنغافورة، والمدير المستقل غير التنفيذي في “آر إي إي كورب” (REE Corp)، وهي شركة فيتنامية مدرجة في البورصة لإنتاج الطاقة المتجددة، إنه لا يوجد أي بلد في الأسواق الناشئة في آسيا حالياً يقترب من إغلاق محطات الفحم القائمة، لأن الطلب على الكهرباء في العديد من الأماكن ينمو 5% إلى 8% سنوياً.
حتى في الأسواق الأكثر رسوخاً، مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، من المتوقع أن يبدأ استخدام الكهرباء في الارتفاع مرة أخرى نظراً لشهية الطاقة لدى مراكز البيانات التي تقود الذكاء الاصطناعي، والأعداد المتزايدة من المركبات، وأنظمة التدفئة التي تعمل بالكهرباء.
ثاني أكسيد الكربون المسبب الوحيد للاحتباس الحراري؟
من المؤكد أنه من الأفضل للبيئة بشكل عام تلبية الطلب الجديد على الطاقة من خلال الغاز، وليس الفحم، على الرغم من أن مصادر الطاقة المتجددة الخالية من الانبعاثات ستكون أفضل.
فبالمقارنة مع الفحم، ينبعث من الغاز الطبيعي عدد أقل من الجسيمات الدقيقة التي تسبب الوفاة المبكرة لدى الأشخاص المصابين بأمراض القلب والرئة، كما أنه ذو بصمة كربونية أخف (تنبعث منه غازات دفيئة أقل)، على الرغم من أن هذه الميزة تتناقص مع نقل المزيد من الغاز كسائل بدلاً من شحنه عبر خطوط الأنابيب، ونظراً لأن الطاقة مطلوبة لتبريد الغاز بحيث يصبح سائلاً، وإبقائه بارداً أثناء نقله، وتدفئته مرة أخرى، فإن انبعاثات الغاز الطبيعي المسال أكثر كثافة منها عبر الأنابيب.
في الوقت نفسه، بات من الواضح بشكل متزايد أن صناعة الغاز مسؤولة عن انبعاثات كبيرة من غاز يحبس الحرارة بخلاف ثاني أكسيد الكربون: الميثان.
ويتكون الغاز الطبيعي نفسه بشكل أساسي من 70% إلى 90% من غاز الميثان، الذي إذا انبعث، فإنه يدخل الغلاف الجوي من دون أن يحترق.
وفي حين يمنع ثاني أكسيد الكربون حرارة الشمس من الهروب إلى الفضاء لعدة قرون، فإن أغلب قوة الميثان المسببة للاحتباس الحراري تتبدد في غضون 20 عاماً، لكنه يحبس حرارة أكبر بكثير، بمقدار 80 مرة للطن مقابل الطن من ثاني أكسيد الكربون خلال هذين العقدين.
انبعاثات غاز الميثان
تلك الانبعاثات مقدرة بأقل من نسبتها على الأرجح، فقد خلص تحليل أجراه علماء في 2023 إلى أن انبعاثات غاز الميثان الناتجة عن استغلال النفط والغاز كانت في الواقع أعلى 30% تقريباً مما قدرته البلدان في التقارير المقدمة إلى الأمم المتحدة.
كما أحد مصادر انبعاث غاز الميثان هو معدات مثل المضخات الهوائية التي تعمل بالغاز الطبيعي والمصممة لإطلاق الغاز من أجل تنظيم الضغط.
ويعمد العديد من مشغلي خطوط الأنابيب إلى تنفيس غاز الميثان عن عمد عند تطهير خط من أجل الصيانة، لأن احتجازه يمكن أن يزيد التكاليف أو يطيل وقت التوقف عن العمل.
ويمكن أن تحدث تسربات عرضية عندما تتعطل المعدات، أو يحدث ثقب في خط غاز أسفل منزل، أو عقار تحت الإنشاء.
والحد من انبعاثات غاز الميثان أولوية قصوى للعديد من صناع السياسات ومشغلي الصناعة، لكن الأمر يمثل تحدياً، فوقف الانبعاثات المتعمد يتطلب تحديث المعدات، كما هي الحال مع اكتشاف أماكن التسرب من أجل سدها.
كانت المخاوف من التأثير البيئي للغاز الطبيعي ضمن الأسباب التي دفعت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في يناير إلى إيقاف تراخيص التصدير الجديدة للغاز الطبيعي المسال إلى بلدان لا ترتبط معها الولايات المتحدة باتفاقيات تجارة حرة.
وستستخدم وزارة الطاقة المعلومات المحدثة لدراسة التأثيرات المحتملة على تغير المناخ نتيجة زيادة إنتاج الغاز الأميركي وصادراته، وذلك من بين أمور أخرى.
وتحتل الولايات المتحدة المركز الأول كأكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم تليها قطر.
دور الغاز الطبيعي المسال
كان نضوج صناعة الغاز الطبيعي المسال وراء طفرة الغاز الطبيعي حالياً، فتسييل الغاز الطبيعي يجعله أكثر كثافة بحيث يمكن تحميله على السفن بكميات كبيرة، ونقله حول العالم، مما يحرره من خطوط الأنابيب الثابتة.
وخصصت الشركات والمستثمرون والحكومات أكثر من 235 مليار دولار لمحطات تصدير غاز طبيعي مسال جديدة من 2019 إلى 2023، وفق تقدير شركة “ريستاد إنرجي” (Rystad Energy)، التي تتوقع إمكان استثمار 55 مليار دولار أخرى حتى 2025.
ومن المتوقع أن تضيف المشاريع التي بدأت بالفعل، طاقة تصديرية جديدة للغاز الطبيعي المسال تتجاوز 200 مليون طن على مدى السنوات الخمس المقبلة أو نحو ذلك، وفق حسابات “بلومبرغ إن إي إف”، وإذا مضت مشاريع إضافية في مرحلة مبكرة قُدُماً، فإن هذا الرقم سيكون أقرب إلى 300 مليون طن، بحسب شركة “بيكر هيوز”، وهذا من شأنه أن يضيف قدرة جديدة تعادل 70% من إجمالي التجارة السنوية الحالية، وهو ما يكفي لتزويد نصف مليار منزل بالطاقة.
تعكس هذه الاستثمارات تحولاً في أولويات شركات الطاقة الكبرى، والتي أضعف بعضها الأهداف المناخية المعلنة سلفاً.
وتخلت “شل” في مارس عن هدفها المتمثل في خفض صافي كثافة الكربون، وهو مقياس للانبعاثات المرتبطة بوحدات الطاقة التي تبيعها الشركة، بمقدار 45% بحلول 2035.
وأشارت الشركة إلى “عدم اليقين إزاء وتيرة التغيير في تحول الطاقة”، كما قلصت “بي بي” هدفها لخفض الانبعاثات في 2023.
ويتعهد المستوردون بشراء الإمدادات التي ستتدفق من مشاريع الغاز الجديدة، فمنذ بداية 2022، وقّعت الشركات الصينية عقوداً طويلة الأجل للغاز الطبيعي المسال أكثر من أي دولة أخرى، بحسب بيانات “بلومبرغ إن إي إف”، ولا يتأخر عنها كثيراً الاتحاد الأوروبي، الذي يحرص أعضاؤه على تأمين الإمدادات بعد أن خفضت روسيا بشدة صادرات الغاز عبر الأنابيب إلى الاتحاد رداً على العقوبات المرتبطة بحربها على أوكرانيا.
هل هناك بديل جيد؟
في بعض الحالات، لا يوجد بديل جيد لهذه المشتريات، ويُستهلك قرابة ثلث الغاز الطبيعي على مستوى العالم في القطاع الصناعي لاستخدامات مثل إنتاج الأسمدة والسيراميك، والتي تتطلب الوقود الأحفوري، وفي الهند والصين، تذهب معظم واردات الغاز مباشرة إلى المصانع، وتطلق هذه المرافق الغازات الدفيئة عن طريق حرق الوقود مباشرة، من خلال التفاعلات الكيميائية وحالات التسرب.
وفي المقابل، سيكون استخدام مصادر الطاقة المتجددة خياراً أنظف كثيراً لتوليد الكهرباء، لكن إضافة هذا النوع من القدرة، وخاصة في البلدان النامية مثل فيتنام وباكستان، يمكن أن يمثل تحدياً، أو على الأقل أبطأ من زيادة واردات الغاز، فمزارع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح تتطلب مساحة أكبر من البنية التحتية للغاز، والأهم من ذلك، أن تحقيق هذه القدرة من خلال الطاقة المتجددة يمكن أن يتطلب تحديث الشبكة، وإضافة بطاريات لتوفير الطاقة عندما لا تتوفر الشمس أو لا تهب الرياح، مما يوجد مشكلة يُشار إليها بعدم انتظام مصادر الطاقة، من ناحية أخرى، ينتج الغاز الكهرباء على مدار الساعة بغض النظر عن الموسم، ولهذا السبب يطلق عليه أحياناً مصدر التحميل الأساسي.
يقول المدافعون عن الغاز الطبيعي إنه يمكن أن يسهل اعتماد طاقة الرياح والطاقة الشمسية من خلال التعويض عن تقطعها، على الأقل حتى يمكن توفير حل خالٍ من الانبعاثات، وبصرف النظر عن إضافة تخزين الطاقة عن طريق البطاريات، تشمل الخيارات بناء قدرة خالية من الانبعاثات وغير متقطعة، مثل الطاقة المائية أو الطاقة الحرارية الأرضية أو النووية، أو ربما تكنولوجيا الهيدروجين الأخضر، على الرغم من أنها لا تزال باهظة الثمن للغاية.
وتتمثل المخاطر في أن مشاريع الغاز الطبيعي الجديدة ستزاحم الاستثمارات في مصادر أنظف بدلاً من تشجيعها، بحيث يحدث التحول إليها ببطء شديد، بما يحول دون تحقيق الأهداف المقصود منها منع الاحتباس الحراري الكارثي.
مسار خطير
يشعر أنصار البيئة بالقلق من أن هذا هو المسار الذي يمضي فيه العالم، ولأسباب وجيهة، يتوقع منتدى الدول المصدرة للغاز أن ينمو الطلب العالمي على الغاز بـ30% تقريباً بحلول منتصف القرن من مستويات 2022 إلى 5360 مليار متر مكعب.
وهذا بعيد جداً عن تقديرات وكالة الطاقة الدولية، التي تعتقد أنها ضرورية لوصول العالم إلى صافي انبعاثات صفري بحلول 2050 من أجل الحد من ارتفاع درجة الحرارة العالمية عند 1.5 درجة مئوية فوق مستويات منتصف القرن التاسع عشر، وفي السيناريو الأكثر طموحاً لتحقيق هذا الهدف، تشير تقديرات وكالة الطاقة الدولية إلى أنه يتعين أن ينخفض الطلب على الغاز بـ78% إلى 900 مليار متر مكعب فقط في الفترة من 2022 إلى 2050، وفي توقعات أقل طموحاً، تتصور الوكالة انخفاض الطلب بنحو 42% إلى 2400 مليار متر مكعب.
وبسبب التأثير المناخي للغاز الطبيعي، تقول وكالة الطاقة الدولية إنه في سيناريو صافي الانبعاثات الصفري، ليس هناك مجال يذكر للغاز ليكون وقوداً انتقالياً، وفي كلا التحليلين للوكالة، تعد المصادر الخالية من الانبعاثات هي المحرك الأساسي لإزالة الكربون.
تضييق الفجوة؟
تضيق الفجوة بين الاتجاه الذي يمضي إليه العالم، وذلك الذي يتعين عليه أن يسلكه للحد من تغير المناخ إذا كان مصدرو الغاز يبالغون في تقدير الطلب المستقبلي على منتجاتهم، كما يعتقد بعض الباحثين.
معهد اقتصاديات الطاقة والتحليل المالي، وهو مركز أبحاث اقتصادي تقدمي تموله منظمات معنية بتغير المناخ، حذر من فائض في العرض يلوح في الأفق، قائلاً إن مشاريع الغاز الطبيعي المسال المستهدف أن تبدأ العمل بعد عام 2026 “قد تدخل في مجمع طلب أصغر بكثير مما تشير إليه توقعات سوق تشهد صعوداً في الأسعار”.
يتوقع “مورغان ستانلي” أن الإنتاج الجديد الذي سيعزز العرض سيبدأ في تجاوز الطلب في قريب، ربما العام المقبل.
وإذا استمرت أسعار الطاقة النظيفة والبطاريات في الانخفاض، مما يجعل المزيد من محطات الوقود الأحفوري غير اقتصادية، فقد ينتهي الأمر بأصول الغاز الطبيعي المسال غير مستغلة بالقدر الكافي أو حتى متوقفة عن العمل في غضون 10 إلى 15 عاماً. وهذا من شأنه أن يوجه ضربةً ماليةً للذين يستثمرون فيها، في حين يقدم للعالم ككل فرصةً أكبر لتجنب الاحتباس الحراري الخطير.